( أولئك الذين إمتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم )
(صدق الله العظيم)

لأن يفقد الإنسان من هو عزيز عليه وأكبر منه فإن ذلك سنة من سنن الكون والحياة ويكون عادة مدعاة للأسى والحزن الهادىء الدافىء الذي يغسل النفس بأحاسيس متنوعة متضاربة من الإيمان بقضاء الله وحكمه ويواكب ذلك شيئا من راحة النفس من أن الفقيد قد أدى واجبه وأكمل رسالته وغادر هذه الحياة الدنيا مستعدا للقاء ربه وخالقه .. كما أن فقد الصغير يترك في النفس تلك الطعنة الحادة من المصيبة والشعور بالغبن فتختفي كل المشاعر والأحاسيس إلا الألم الممض الحاد والحسرة القاتلة وهول الإصابة والمصيبة . فتختفي كل المشاعر والأحاسيس أمام قسوة القدر . ولكن ما هو إحساس الإنسان عندما يفقد قرين رضاعه وإبن طفولته وزميل دراسته وصديق حياته بعطائها وشحها . بإتفاقها وإختلافها . بتجمعها وتفرقها . بيسرها وعسرها ... هل يبكي الإنسان ؟ وعلى ماذا يبكي ؟ .. هل يحزن على الفقيد أم يتذكر حياته ؟ جالت هذه الأفكار والآراء في ذهني كما أنها جالت ولا شك في ذهن كل من فجع بصاحب وخليل مثلي وعاد الى بيته ليخلو الى نفسه ومشاعره

وبعد .. ماذا يقول المرء في رجال مثل قاسم ؟ حسنا فعلت غرفة تجارة البحرين عندما كرمت الفقيد بحفل مزدحم مهيب حضره كل من عاشر قاسم ولمس فيه تلك الصفات والمشاعر الصادقة نحو هذا البلد وأبنائه . ولا شك أنه مات قرير العين وهو يودع هذه الحياة الدنيا بعد أن عرف بهذا التكريم في حياته . فنحن عادة لا نكرم في الحياة ولا نشكر الإنسان على ما فعل إلا بعد دفنه ... نعم

فلشخصه منا الإهانة والأذى             ولنعشه التهليل والتكبير

وما عساي أن أضيف الى تلك الصورة القشيبة للمرحوم التي أبرزها إخوانه وزملاؤه في حفل تكريمه في الأسبوع الماضي اللهم إلا بعض اللمسات .. وذلك قبل أن تبهت الألوان

ولم تكن الحياة سهلة هينة لقاسم .. إنفصل أبواه في مرحلة الطفوله وضاع صاحبنا بين بيتين كبيرين أحدهما في شمالي المحرق والآخر في جنوبها . بيتان كبيران وأسرة موسعة تعج بالآباء والعمام والعمات والخالات والأطفال والصبيان والخدم وأبنائهم . القدر واحد وصفرية العدس واحدة ومخرقة الرطب واحدة للجميع.النوم في دار وفي الصيف على السطوح والعناية واحدة يتساوى فيها الأطفال والخدم .. لا فرق . وكان قدر قاسم أن يصرف الوقت الأكبر في رحلته المكوكية بين البيتين . أرسله والده الى بيروت قبل الحرب ثم عاد ليسكن مع والده في المنامة فضاعف ذلك من مشاكل حياته ووقته. أصر والده على تربيته وتعليمه وفترة هنا وفترة هناك وصعوبة هنا ومشكلة هناك تمكن قاسم من إكمال مراحل دراسته الإبتدائية والثانوية في عدة مدارس وفي عدة مدن ليتوج ذلك بإكمال الدراسة الجامعية في بيروت وينال أول شهادة ويكون أول خريج وأتعب قاسم نفسه فأتعبته الحياة . ولا أذكر أن قاسم ذهب يوما في رحلة أو أخذ إجازة أو خلد الى الراحة . العناية بالخريجين وناديهم واجب مقدس وبنك مشترك مع الكويت هو أول نواة التعاون الخليجي ومشروع مشترك في مصر هو ولا شك نواة لوحدة إقتصادية عربية

أما العمل الإجتماعي والإشتراك في نشاط الفرقة التجارية والإنخراط في كل نشاط يمس الوطن والمواطن فهذه من المسلمات والبديهيات التي قبلها مارسها دون أن يلتفت مرة واحدة الى الوراء . قضى كل حياته في خدمة مجتمعه ووطنه بكل ما يملك من إمكانيات . وماذا عن قاسم الإنسان ؟ يتسع المجال لثلاث ملاحظات . واحدة أبرزها إبنه سمير في حفل التكريم

كان قاسم برا بوالدته وأهله وبقي محافظا على هذه الروح طيلة حياته ولعله من المريح لي ولأمثالي من أخوانه أن يلمس هذه الثمرة وقد أتت أكلها في شعور إبنه وزوجته وإخوانه وأخواته في مرضه وموته . ولعل هذا العطاء هو الشعور الوحيد الذي أكرمته الحياة وكان مصدرا لسعادته ورضاه

الملاحظة الثانية هو أن قاسم كان عفيف المشاعر . عفيف الفعل وعفيف اللسان ولم أذكر أنه تهجم على أحد أو نبز أو لمز أحدا بفعل أو قول نسمع هذا من أولئك الذين أختلفوا معه وجدوا فيه هذه الصفة فنال إحترامهم ومودتهم

الملاحظة الثالثة أن هذا الرجل الذي أشغل الحياة . فأشغلته فملأت وقته وجعلته يلهث بهمومه وطواحينه وأفكاره وراءها .. هذا الرجل وجد الوقت الكافي ليقرأ فزاده الله علما وحكمة وأصبحت حياته أكثر غنى وسعادة

وإذا كنا قد توجنا قاسم بأنه شيخ الخريجين فإن التاريخ سوف يسجل أنه أول من مات من هذه السلالة المهددة بالإنقراض .. هذه السلالة من الذين يقرأون والتي بدأت الإستيريوهات والفيديوهات والتليفزيونات تحتل أركان بيوتها ليختفي منها الكتاب

وإذا كان قاسم لم يكتب ولم يترك لنا أثرا عن أفكاره وآرائه فإن ذلك لن يعطينا نحن إخوانه أية ميزة عليه . ألسنا نحن هذا العجين من هذا الطحين

كان رحمه الله شديد الإيمان بعقيدته عميق المعرفة بتراثه وأوامر دينه فخلت حياته من التطرف والتزمت والإستقطاب العقائدي فكانت نظرته معتدلة متزنة ونحن أحوج ما نكون الى هذا النوع من الرجال في وقتنا هذا

ولتكن منكم أمه يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون
(صدق الله العظيم)